Abstract:
إن الله سبحانه وتعالى ـ طرح مساحة عالم الغيب وما فيه من موجودات للعقل الإنساني ليأخذ فيه سعته ومداه المعرفي ، ولكي ينضبط العقل الإنساني في ذلك جعل له مصدر الوحي الصحيح ، لكي لا يتيه في غياهب هذا العالم الغير محسوس ، فيضل ويشقى في الحيرة التي لا توصل إلى أي معلوم ليطمئن بها.
ومما يلاحظ أن القرآن الكريم إبتداءاً في جميع آيات الغيب والشهادة يذكر الغيب قبل الشهادة دون العكس ، مع أن عالم الغيبيات أشرف من عالم الشهادة ، والتمدح به أعظم وعلم البيان يقتضي تأخير الأمدح في سياق المدح وجواباً على ذلك يمكن أن يقال :
إن المشاهد له سبحانه وتعالى أكثر من المغيبات عنّا نحن البشر ، والعلم يتشرف بكثرة متعلقاته ، فكان تأخير الشهادة أولى .
أو أن الأمور المغيبة عن الإنسان لا تتناهى عن سعة ومدى ، في حين أن الأمور المشاهدة له قليلة ، يسيرة ، محدودة : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) سورة الإسراء .
فالله سبحانه وتعالى عنده وحده علم الغيب ، وعنده وحده علم المشهود الذي يحدث في الدنيا .. وبهذا لا يغيب عن علمه شيء .. لا في الأرض ولا في السماء .
ولكن الله سبحانه وتعالى قد طرح للعقل الإنساني جزءاً من عالم الغيب ـ في القرآن الكريم كتاب خاتمة الرسالات ، ليزيده في رؤياه المعرفية ، حجاب الغيب إلى يوم القيام ، وليعطي كل جيل من البشر معرفة يقينية به .. فمزق القرآن الكريم حجاب الزمن الماضي .. ومزق حجاب الزمن المستقبل .. ومزق حجاب المكان ، وذلك من خلال السنن الربانية التي أخضع لها هذا العالم الغيبي فشيأته إرادة المولى سبحانه وتعالى موجودات وكائنات كونية ، بعضها أسباب ومقدمات لبعض . منها ما نراه ومنها من لا نراه ، ولعظمتها عند ربها جلا وعلا ، أقسم بها في قوله : (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُون: (39) سورة الحاقة.
ولهذا فقد طرح عالم الغيب ، ميداناً أولياً ، للرؤية القرآنية المعرفية ، ولكن لابد لنا من أن نطرح هذا السؤال ، ما هو المقصود بعالم الغيب ؟ وللإجابة على السؤال ، لابد من الرجوع إلى معنى عالم الغيب في اللغة وفي الإصطلاح !! في هذا المبحث